الذهاب في المجاز
عناصر الخيال تُعزَى لأحلام ’أماني الجنيدي‘.
في المرات الماضية اتفقنا على أن يقوم كلٌّ منا بما يقوم به الآخر عادةً حتى نتقن كلا الفعلين، لكن هذه المرة نقف على الفراغ فراح كل منا لما يجيده لنبنيَ شيئاً صُلباً نمشي عليه.
حين أستيقظ يوم عطلة أفكر بأن هذا الوقتَ بِيَدي، ليس عندي له إطارٌ إلا ما ستُحيطُ به يدي وكيفما ستحيط بحبّاته، وهذا مُربِك. الحبّات الأولى: الساعة 9:37ص، أفكر بالعَـقَبة التي تنتظرني في المطبخ وأذهب إليها فارغ الإرادة؛ وجدته واقفاً متكئاً على الجرانيت يحدّق بالسقف كأنما يراه أوّل مرة، أسلّم عليه كنوع من الفكاهة لأنه لا يردّه أبداً بل يقول ما يريده وحسب. لم يسألني ما الذي أردته على الفَطور بل بدأ يحدّثني عن شيءٍ يريد كتابته وأنا سئمتُ منه.
كنتَ بسهولة لترى أنه خفيفٌ كالريح؛ رأسه الراجح للخلف، ذقنه المحمول بسبّابةٍ فقط، كيف يكسر البيضة بيدٍ واحدة أو يُـحِدّ السكين من أجل تقشير الطماطم لا غير، كيف يُطلِق قدميه بحذاء الركض أو كيف يدوّر يديه فوق عجلة القيادة. لكنّه ثقيلٌ على نفسه يُضني الأرضَ بها وهو يمشي، لن تراه أو تسمعه أبداً وهو يبكي لكنّ الجميع بطريقة ما يعلم ذلك.
ربّما لأني لم أصرخ بل حاولت أكثر منه المساعدة فجعلت كلامي أكثر تجريحاً، لكنه انسحب إلى غرفته سريعاً عندما أخبرتُهُ بأن ’اخرج واقرأ شيئاً جديداً فالكلّ تعجبه غير كتاباتك، لا أحد يريد أن يقرأ أكثر عن موج العيون والفم حين الضحك، لم يعد يهمّ ذكر الإنسان الذي يراه الكل أو الأشياء التي تعيد نفسها....‘
...
’’هُوَ‘‘: وقفتُ أنتظره وأغنّي مدركاً انزعاجه الكلّيّ من غنائي، أمّي هي الوحيدة التي لا تسكتني حين أغنّي وأنا أحبّها لذلك. اتكئت على الجرانيت فقد أخذ وقته في المجيء وبدأتُ أفكّر وظللتُ كذلك حتى رجح رأسي للخلف، قابلني السقف وانزعجتُ فهو الذي لا أعرف النفاذ عبره، سقف من فوقه حجابٌ يمنع عنّي ميراثي من الأفكار ولم أعد أستطيع التفكير وتحوّل كل شيء للونه عاجيّاً شاحباً حين جاء هو أخيراً.
...
انسحب إلى غرفته ولم يعد يريد أن يخبر القصّة من طرفه، بدأ يقصُّ من يومه بالنّوم حتى أُدغِمَ نهاره وليلـُه وظننتهما لن يُفَكَّا. قال لي إنه ليس بسببي إنّها هي، كانت سوريا تقف على باب صحوته وباب غرفته وهو لا يقوى مواجهتها وأنا أردتُ أن أصدّقه. لم يشأ أن يخبر القصّة أبداً فها أنا ذا.. وسط حدّة دمي وجدتُ فكاهةً حسمتُ أمرها في العنوان، لا أعرف لماذا أنا هكذا متوتّراً دائماً، أفكّر لو كان أحد والديّ شاعراً لكانت الأمور أسهل بكثير، على الأقل لإتمام هذا.
لم أعرف كيف أبدّل ما جرى لكنّه جاء إليّ بنفسه وتغطّيه مكعّبات صغيرة بدأتُ أحرّكها، رأيتُ فيها صوراً ورأيت نفسي بأحدها أتحدّث إليه وهو متكئاً على الجرانيت حاولت التخلص منها ولكني لم أفلح، بدّلت مكانها وبدأت تتغير الصورة فيها حيث بدأ بالضّحك ودخل المغيب من النافذة على وجهه وصَغِرتُ أنا في العَتَمة. استيقظتُ وركضت إلى غرفته الفارغة منه، وجدته بعد بحثٍ بظهر مستقيم مستقيم يقابل طاولة دائرية، ظلّ يحدّثني عن وجهه الملوّن وقلقه عن كيف سيقابل الناس به، كيف سيخرج إلى الشمس. ثمّ انشغل بي قال أنّي موضوعه المفضّل للكتابة، سألني عن أكبر مخاوفي، الغناء وعن الشروق. ارتبتُ وسألته إن كان بخير وإن كان سيعود للكتابة، نظر إليّ يعكس كلّ ما كان يفتقده وكنت دائماً ما أرى الريح بذلك. قلتُ له أنه لا يشكر الله كما ينبغي وتصيّده دفتره قبل أن أُدرك:
في المرات الماضية اتفقنا على أن يقوم كلٌّ منا بما يقوم به الآخر عادةً حتى نتقن كلا الفعلين، لكن هذه المرة نقف على الفراغ فراح كل منا لما يجيده لنبنيَ شيئاً صُلباً نمشي عليه.
كان إيجاد الأدب هنا أصعب من أي مكانٍ غيره، أخبرنا أنفسنا أنها بيوت شاميّة كبيرة واسعةٌ كعقولنا، ولعبتُ أنا دَوْرَ حرّان* فكان مثاليّاً لمجرّد الجلوس ومراقبة المكان. كان لا بأس بالصورة من بُعد، من ذهاب وإياب وأُطُرٍ، لكنه ذلك الفراغ اليومي الذي لا يُطـاق والذي يتّسع أيّام العطل.
الساعة 9:37ص ما تزال أعتقد أن وقتها انقطع أو أنها لا تهبه لنا، نصفُ شمسٍ كقبّة الصخرة، الفصحى تحبِكُ الصوت والأغنية، طريقٌ يُقَصُّ بالنوم وبعده ندخل إلى الغرفة ويلائمني الكرسي كأنّما صُمّم لي وأسمع اسمي في القائمة مؤكّداً أن هنا مكاني لكنّي أسمع أصواتاً في رأسي وأنا خائف. بدأتْ مصفوفاتٌ بالهطول من فوْق، مصفوفات كبيرة الحجم تكرّر إمّا اسمي او اسمَ بلدٍ او أسماءٍ أخرى كثيرة وأحاول جهدي ألّا تسحقَني.
أستيقظ يوم عطلة، أغسل وجهي ولا تُغسَل حدّة دمي، أقف في المطبخ خلف النافذة أتأكد من وجود شجرات السرو وأتكئ على الجرانيت، أغني وأفكر بأمّي التي لم تُسكِت غنائي قط، أذكر وهماً حدث هنا في رأسي، أذكر مقولة أن الفنّان ملهمٌ أكثر من فنّه وأضحك، أو أذكرها وأفكّر بنفسي فأضحك! ظللتُ كذلك حتى وجدتُ السقف يُحْدِقُ ويُحَدِّقُ بي ولسببٍ شعرْتُ أني سخيف ولم أعد أستطيع التفكير.
*حران: شخصية في رواية أبناء القلعة لزياد قاسم، كان رمز ثابت دائم الجلوس أمام مقهاه.
هذه النصوص "ساحرة" بالنسبة لي، كررت قراءتها عدة مرات، وسأبقى أعيد الكرة، راجياً ألا تختفي هذه المدونة كسابقتها .. نعم أنا لا أنسى "المدونة القديمة" :)
ردحذف